بعد أن خرج الجميع إلى مدارسهم، وسمعت صوت الباب وهو يغلق، تهاوت على الأريكة التي أمامها محاولة أن تستجمع قواها؛ فقد بدت شاحبة الوجه زائغة العينين وصداعها مازال مستمراً!
كانت الساعة تشير إلى السادسة والنصف صباحاً، أغمضت عينيها تستجدي الراحة أن ترفرف حولها، أخذت نفساً عميقاً ودخلت في عالمها الرحيب عالم الخيال وأخذت تتمتم:
آه.. ليت عندي خادمة مثل باقي أخواتي تتحمل عني أعباء المنزل ومتابعة الأولاد!
آه.. ليت زوجي يشعر بما أعانيه ويحاول مساعدتي ولو أن يحجب انتقاداته عني!
آه.. ليت لي وظيفة أحس من خلالها بوجودي وفائدتي في هذه الحياة!
ليت وليت وليت.. أشياء كثيرة جعلت مني امرأة في الستين مع أنني لم أتجاوز الخامسة والثلاثين من العمر! أطلقت صوتاً من أعماق قلبها أشبه بتنهيدة شيخ في التسعين من عمره لعبت به الأمراض والسنون وراحت في نوم عميق..
حاولت جاهدة فتح عينيها؛ فقد بدا ملحاً صوت هذا الجرس المتواصل، ولكنها لم تميز ما هو هذا الصوت.. لحظات وعادت تذكر أنها ما زالت على الأريكة، ونظرت إلى الساعة.. إنها الحادية عشرة ضحى وهي ما زالت نائمة، فقد استيقظ العالم من حولها وهي ما زالت في سبات عالم الأحلام..
هبت مسرعة إلى الهاتف لترى من المتصل، فإذا بها إحدى الجارات.. رحبت بها وبدأ بينهما الحوار الروتيني اليومي الممل:
أين ذهبتم البارحة؟ ماذا قلتِ لزوجة أخيك.. هل أوقفتها عند حدها؟ أم أحمد لا يمكن أن نصبر عليها فهي تمنعنا من الحديث عن فلانة وعلانة!! استمر بهما الحديث حتى الثانية عشرة ظهراً؛ فأفاقتا من حديثهما على صوت جرس الباب؛ فعلمت أن أبناءها قد خرجوا من مدارسهم، ثم سيأتي زوجها وهي لم ترتب المنزل أو حتى تقوم بإعداد الطعام! هالها الموقف.. اعتذرت من جارتها ووعدتها بإكمال الحديث عندما يغط زوجها في نومه ظهراً؛ فالحديث معها شيق وممتع!!
أدخلت الأولاد ودخلت المطبخ مسرعة بدت مترددة.. ماذا تعمل؟ فاللحوم مثلجة والأدوات غير مرتبة، صرخت على أولادها: ساعدوني! هبوا مسرعين! أمرت البنت ذات العشر سنوات أن تقوم بتنظيف غرفة الجلوس، وابنها صاحب الاثني عشر عاماً بأن يقوم بتنظيف دورات المياه! وبدأت في أعداد الطعام على عجل.. الساعة الآن الواحدة والنصف وهي بشكلها غير المنظم ما زالت في المطبخ..
صوت المفتاح يدور في الباب، صرخ أبناؤها: جاء أبي.. فذهبوا مسرعين إلى الباب لاستقباله!! دخل الزوج يحمل فوق عاتقه أطناناً من التعب، تهاوى جالساً وطلب الغداء كي ينام، أسرعت الزوجة ووضعت أمامه الطعام وأخذت تصب غضبها على الأطفال: ضع هذا هناك.. اترك هذا في مكانه.. لا تعبث بالطعام.. وأنت كل بالطريقة التي أخبرتك دع مجالاً لغيرك.. وهكذا حتى صرخ الزوج: كفى أريد أن أتناول الطعام في هدوء! أخذ ملعقة من الأرز، ثم قال لزوجته في هدوء: هل انتهى الملح من المنزل؟ قالت الزوجة بتعجب: كلا ولماذا؟ ولكنها تذكرت أنها لم تضع ذرة ملح واحدة في طعامها اليوم!!
ثار الزوج وأخذ يصيح: ما الذي أشغلك عن طعامك؟ متى استيقظت اليوم؟ تمتم قائلاً: حسبي الله ونعم الوكيل، ودخل غرفته وأغلق عليه الباب، واستسلم للنوم فقد بدا مجهداً اليوم..
تنهدت الزوجة ورثت لحالها وحملت بقية الطعام إلى المطبخ.. وعندما عاد الزوج من صلاة العصر طلبت منه الخروج لزيارة الجيران! رفض الزوج بحجة أنها مشغولة بالمنزل والأولاد، وخرج من المنزل..
بقيت الزوجة تندب حظها حتى سمعت جرس الهاتف يرن! أسرعت إليه فكانت جارتها تسألها متى تأتي إليها؟ اعتذرت منها وقالت: لقد رفض زوجي! فما كان من جارتها إلا أن انطلقت كالسيل الهادر: كيف تصبرين؟ ألحي عليه! انظري لبقية الجارات كل يوم في مكان! وإن لم تخرج ذلك اليوم فإن زوجها يبقى معها يؤنسها! وكانت الزوجة تسمع كلام جارتها بحماس شديد وهي تعقد النية على أن تخاصم زوجها أن لم يفعل لها ذلك!!
أغلقت جارتها الهاتف بعد أن شعرت أنها أسدت أعظم نصيحة لجارتها، تلاعبت الأفكار بهذه الزوجة وأخذت تتقاذفها يمنة ويسرة.. تركت أبناءها أمام التلفاز ورفعت سماعة الهاتف لتحادث والدتها؛ فهي مريضة منذ يومين ولم تكلف نفسها عناء السؤال عنها ولو بالهاتف!!
وبعد السؤال عن والدتها والاطمئنان عليها بدأت تشتكي لها من صلف زوجها وقلة حيلتها وكثرة المشاغل وأن كل شيء فوق عاتقها ولا أحد يمد يد العون لها أو يحاول التخفيف عنها، ثم انخرطت في بكاء طويل، هدأت الأم من حال ابنتها وقالت لها: يا ابنتي عندما نحاول علاج أي أمر فإننا نعود إلى منشئه! فأنت تشتكين من كثرة الأعباء المنزلية عليك وتودين لو كان هناك خادمة تعينك، أنت تشتكين من كثرة تذمر زوجك وكثرة خروجه من المنزل، تشتكين من عدم محاولته التفريج عنك ولو بقليل، وأشياء كثيرة.. يا ابنتي لو عدنا لمنشئها وسببها ألم يكون من صنع يديك أنت؟
تعجبت الزوجة وقالت: أنتم دائماً هكذا! الزوج يخرج منها مثل الشعرة من العجين! سكتت الأم قليلاً ثم قالت بهدوء: يا ابنتي إن الزوج يبقى خارج المنزل نصف النهار تقريباً أو يزيد وهو يكابد الحياة من أجل أن تتوفر لكم حياة هانئة رغيدة ومستقرة، وعندما يهم بالعودة إلى المنزل وهو في طريقه يحلم بدخول جنته في الدنيا سكنه المريح! وتخيلي أنت ماذا سيجد زوجك عند دخوله المنزل؟ ولك أن تحكمي بنفسك وفي قرارة نفسك.
الزوج يا ابنتي يريد زوجة تحيل بيتها إلى جنة وارفة الظلال! إلى واحة يركن إليها عندما تحيط به المتاعب؛ فيجد صدراً رحباً وقلباً مفتوحاً متفرغاً ليمتص همومه وآلامه.. يا ابنتي أن تركت نفسك إمعة تسيرين خلف ترهات بعض النسوة؛ فإنك تهدمين صرحاً تعبت عليه حتى اعتلى ألا وهو أسرتك، يا ابنتي: هو حياتك تشكلينها كيفما تشائين بالحب والمودة والسكنى!
يا ابنتي.. صديقك من صدقك! أنا أتكلم إليك، ووالله إن دمعي ينحدر شفقة وخوفاً عليك، لا تهتمي أو تكترثي بتلك المرأة؛ فهي حاقدة لم تنعم بالسعادة والأمان في بيتها ولا تريد أحداً أن ينعم به.
استودعتك الله يا ابنتي، وأرجو أن تفكري في كلماتي هذه، وضعيها منهاجاً تسيرين عليه بعد نهج القرآن الكريم والسنة النبوية..
لحظات وأنهت البنت اتصالها مع أمها، ثم خلت بنفسها وجلست تفكر.. هل أمها محقة في كل كلمة وحرف؟ كيف لا وهي ترى الصدق ينبع من بين حروفها؟! فعاهدت نفسها على البدء من جديد في معاملة زوجها رفيق دربها ومتابعة أطفالها وشؤون منزلها..
قامت الزوجة وأعادت ترتيب منزلها وعطرته بالروائح الزكية وأصلحت من شأن الأطفال وانتظرت عودة حبيبها...
تمام الساعة الثانية عشرة ليلاً والزوجة في غرفتها تنتظر قدوم الزوج، دخل الزوج المنزل وتفاجأ من شكله ورائحته! تبدلت نفسيته وارتسمت على محياه ابتسامة الرضا وأخذ ينادي زوجته بصوت عال: مها.. مها.. أين أنت؟
هبت الزوجة مسرعة إليه ووضعت يدها على فمه وقالت: اخفض صوتك؛ فالوقت متأخر والجميع نيام، وعندما أراد أن يتكلم قالت: حبيبي.. هي بداية ونقطة انطلاق نحو كوكبة السعادة؛ فضع يدك في يدي ولنبدأ سوياً!
ضحك الزوج وأمسك بيدها ودخلا إلى غرفتهما ضاغطاً على يدها مؤيداً بداية الانطلاق!!
وفي تمام الواحدة ليلاً كانت هناك امرأة في الستين من عمرها تبكي في خشوع في مصلاها، وتلح بالدعاء لبنات المسلمين عامة، ولبنتها خاصة!
وأسدل الستار عن يوم لا ينسى في حياة زوجة!!